الصمت حكمة- تأملات في قيمة الزهد في الكلام وعصر الثرثرة

المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.16.2025
الصمت حكمة- تأملات في قيمة الزهد في الكلام وعصر الثرثرة

قرأتُ قولاً بليغاً لرسول حمزاتوف يضيء الفكر: "إن أهلنا يمضون عامين من أعمارهم الثمينة لتعليمنا فنّ الكلام، ثم يكرّسون ما تبقّى من أعمارهم السّنيّة لتدريبنا على فضيلة الصمت". وتتجلّى هذه الحكمة في النصوص القيّمة، والحكم الرصينة، والآيات المحكمة، والوصايا النيّرة في مختلف الأديان والمذاهب، إذ تميل جميعها إلى أدب الزهد الرفيع في القول، وتؤكد أن "الندم على السكوت يأتي مرة، بينما الندم على الكلام يتكرر مراراً وتكراراً".

ويبدو أن من أبرز سمات عصرنا الحالي أن العارف الحقّ لا يكثر الكلام، والمتكلم بإسهاب لا يمتلك المعرفة العميقة، وتكمن معضلة "عاشق الثرثرة" في اقتناعه الشديد ببراعته الفائقة في تحليل القضايا وتفسيرها وبحثها، ممّا يثير ضيقاً شديداً لدى مستمعيه، ويكادون يصرخون بصوت عالٍ: "كفاية!".

إن بعض الذين ابتلاهم الله بشهوة الكلام الجامحة يتوقعون أنك منبهر بما يقولون عندما تبتسم لهم ابتسامة مجاملة، أو أنك مفتون بحديثهم وأنت تهز رأسك، وهم لضعف ثقتهم بأنفسهم وهشاشة جوهرهم لا يتوقفون عن الكلام ولا يخشون الملل، بل ولا يستحون من انتهاك حقك الأصيل في الاستمتاع بلحظة هدوء وسلام.

وفي غضون يومين انقضيا، تشرفت بلقاء الكاتب القدير محمد الفايدي، وبما أني أعرف مكانته الرفيعة، وأدرك أنه من صفوة النخبة في بلادنا العزيزة، لم أستغرب لزومه الصمت الوقور طيلة ساعتين كاملتين، حتى تملكني شعور عميق بأن صمت هذا الرجل النبيل أجمل وأنفع بكثير من بعض الكلام الفارغ.

وليس الفايدي وحده من اختار عن قناعة راسخة "الزهد في الكلام" أو اضطر إليه؛ لأن الحكماء والعقلاء يدركون مبكراً أن الصمت حكمة عظيمة، وقليل هم الذين يعملون بها، والعرب الأقحاح تقول بحكمة بالغة: "رب كلمة قالت لصاحبها دعني"، وما أشد قسوة الموقف عندما تستغيث بك الكلمات من كثرة تداولها واستهلاكها من قِبل الجهلاء.

في الأمسيات الثقافية والندوات الفكرية يحضر البعض للتعليق وإبداء الرأي، ولكنه في الواقع يعلّق أرواح الحاضرين وأنفاسهم، وهو ينهمك بإسهاب مفرط في استعراض مواهبه المتعددة في الحياة، ويردد بتباهٍ مقيت مع كل فاصلة: أنا. وأنا. وأنا. حتى يخيّل إليك أنه من سلالة إبليس الملعون.

إذا كان أحد السابقين من العلماء الأجلاء قد قال: "شيبني مخافة اللحن وصعود المنابر" لاستشعاره أمانة الكلمة الثقيلة، ومسؤولية القول الجسيمة، وضخامة وهيبة النقاد من حوله، فإن بعض الثرثارين اليوم لا يتورع عن قول بذيء: "ما أسهل صعود المنابر، واللحن ملح الكلام".

ربما تحرّم زوجات بعض المثقفين عليهم الكلام بإسهاب في المنزل ولذلك ما أن يخرج حتى يفك لجام شفتيه وينطلق بالكلام المسترسل، ومن يريد أن ينجو بنفسه من هذا العبث فليلجأ إلى الخلوة والعزلة، فهذا زمن السكوت ولزوم البيوت، لأن كل ما يحيط بنا مشبع بالكلام الرخيص. علمي وسلامتكم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة